الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .....وبعد
لقد كثر الحديث في السابق والحاضر حول مدى تأثير الجن على الإنسان وهل يمكن أن يدخل الجني جسد الإنسان وهل يؤثر الجن على الإنسان وهل هناك ما يسمى المس الشيطاني ؟؟؟
لذا وجب على أهل العلم أن يوضحوا حكم الشرع في هذه المسائل أو يذكروا المسلمين بها وهذا ما سنحاول بإذن الله تعالى أن نوضحه في هذا المختصر الذي يتضمن بيان معنى المس الشيطاني وهل يتسبب السحر فيه وحقيقة دخول الجن جسد الإنسان .
أولا : معنى المس الشيطاني .
المس الشيطاني له معان وقفت منها على ما يلي :
المعنى الأول : الصرع كما في قوله تعالى : " كالذي يتخبطه الشيطان من المس " ( من الآية 275 سورة البقرة ) المس هنا يراد به الصرع كما ذكر ابن كثير والقرطبي رحمها الله وغيرهما ، وقيل المس يعني الجنون ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ، واعتبره ابن تيمية رحمه الله دخولا للجن في بدن الإنسان. وهذا النوع أطلق عليه ابن القيم رحمه الله الصرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، ويطلق عليه الكثرة المس الشيطاني وهو غير مستقيم عندي لأن الصرع مس وليس كل مس صرعا إلا إن كان من باب إطلاق الكل ويراد به الجزء أو البعض . وقسم البعض الصرع من حيث التلبس إلى نوعين : الأول صرع المصاحبة وهو هيمنة الجن على الإنسان من خارج جسمه دون الدخول في بدنه والثاني صرع الاندماج وهو هيمنة الجن على الإنسان في داخل جسده .
المعنى الثاني : الوسوسة وهو الأكثر استعمالا وهذا النوع من المس بدأه الشيطان مع أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام قال تعالى : "فوسوس لهما الشيطان.." (من الآية 20 سورة الأعراف )ولم يسلم منه أحد حتى الأنبياء عليهم السلام لكن محاولة الشياطين معهم في ذلك باءت بالفشل والخسران كما حدث مع أيوب عليه السلام قال تعالى :" أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ( من الآية 41 سورة ص ) ومع رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما تفلت عليه عفريت ليقطع عليه صلاته (متفق عليه )، ومع المتقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين لم يسلموا من مسه ( وسوسته ) لكنهم يسارعون بالذكر والاستغفار .
في قوله تعالى : " إّذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا .." ( من الآية 201 سورة الأعراف ).
المعنى الثالث : مجرد اللمس ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه ) وفي رواية ( يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مسة الشيطان إياه ) أخرجه مسلم .
ثانيا : هل يتسبب السحر في المس الشيطاني :
للمس الشيطاني أسباب كثيرة منها : الغفلة عن ذكر الله تعالى والإفراط والمبالغة في المشاعر مثل الخوف والغضب والحزن والانكباب على الشهوات وظلم الإنسان للجن والسحر وغيرها .
والدليل على أن السحر أحد أسباب المس الشيطاني ما ثبت في الصحيحين من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره يهودي من يهود بني رزيق يقال له لبيد بن الأعصم حتى يخيل إليه أنه كان يفعل الشئ ولا يفعله فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث ثم قال يا عائشة ": أشعرت بأن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي ما شأن الرجل ؟ قال : مطبوب ، قال: من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال في ماذا ؟ قال : في مشط ومشاطه وجف طلعة الذكر تحت راعوفة ( وهي صخرة تترك في أسفل البئر ) في بئر ذي أوران فجاء البئر واستخرجه " .
وفي هذا الحديث دلالة على أن المس الشيطاني قد يحدث بالسحر وقد يحدث بغيره كما أن فيه دليلا على تأثير السحر في الواقع حيث كان يخيل إليه صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الشئ ولا يفعله وعليه فلا يستبعد أن يرى المسحور أحلاما مزعجة أو أن يتخيل الشئ على غير حقيقته أو يرى الإنسان على غير هيئته كأن يراه في صورة حيوان مثلا .
ثالثا : هل يدخل الجن جسد الإنسان ؟
اختلف العلماء في مسألة دخول الجن في جسد الإنسان فمنهم من ذهب إلى عدم جواز ذلك لعدم توافق طبيعتي الإنسان والجن وينسب هذا القول إلى عامة المعتزلة وتبعهم في ذلك بعض العلماء المعاصرين .
ومنهم من ذهب إلى جواز ذلك وهذا القول هو الراجح والأولى بالقبول لقوة أدلته وكثرة وقوعه من هذه الأدلة ما يلي : من الكتاب قوله تعالى :" كالذي يتخبطه الشيطان من المس " . قال ابن كثير رحمه الله :أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكرا .
ومن السنة المطهرة ما رواه عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي . فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال صلى الله عليه وسلم : ابن أبي العاص ؟ قلت نعم يا رسول الله قال : ماجاء بك ؟ قلت : يا رسول الله عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي . قال : ذاك الشيطان ادنه فدنوت منه . فجلست على صدور قدمي . قال : فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال : اخرج عدو الله ففعل ذلك ثلاث مرات . ثم قال : الحق بعملك . فقال عثمان : فلعمري ما أحسبه خالطني بعد (أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ) .
وفي قول الراوي رضي الله عنه "فلعمري ما أحسبه خالطني بعد" دلالة على أنه كان قبل ضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وتفله في فمه يشعر بمخالطة الجني له وتأثيره عليه لدرجة أنه كان لا يدري ما يصلي وقد صرف الله تعالى عنه هذا المس الشيطاني ببركة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره صلى الله عليه وسلم للجني بالخروج دليل على وجوده في جسد عثمان بن العاص رضي الله عنه .
وما رواه يعلى بن مرة رضي الله عنه قال : رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم عجباً خرجت معه في سفر فنزلنا منزلاً فأتته امرأة بصبي لها به لمم ، فقال : رسول الله عليه وسلم اخرج عدو الله أنا رسول الله ، قال : فبرأ فلما رجعنا جاءت أم الغلام بكبشين وشيء من أقط وسمن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا يعلى ! خذ الكبشين ، ورد عليها الآخر ، وخذ السمن والأقط ، قال : ففعلت .(صحيح البخاري )
وفي قوله صلى الله عليه وسلم " اخرج عدو الله " دلالة على أن الجني كان ساكنا في جسد الصبي مما سبب له ألما ولمما كما وصفت أمه ، والأمر بالخروج دليل على دخول الجن جسد الإنسان وإلا لما كان للأمر بالخروج من جسد الصبي محلا وهو غير مقبول في كلام العقلاء فما بالك بسيد البلغاء صلى الله عليه وسلم.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن دخول الجن جسد الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة مستدلاً بذلك بالكتاب والسنة وما نقل عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما قال : قلت لأبي إن أقواماً يقولون أن الجني لا يدخل في بدن المصروع قال : يا بني يكذبون هذا يتكلم على لسانه . ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله وليس من أمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره ، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك ( الفتاوى 24 /276 ، 277 ) .
ومن أدلة وقوع دخول الجني جسد الإنسان ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى شاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ، ويقول :قال لك الشيخ اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما خاطبها بنفسه ، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب ، فيفيق المصروع ولا يحس بألم وقد شاهدنا نحن وغيرنا ذلك منه مرارا ... كما أورد رحمه الله غيرها مما دار فيه حوار بين الشيخ المعالج والجني الذي دخل في جسد الإنسان ( الطب النبوي 68، 69 ).
ومن الواقع المعاصر ما ذكره الشيخ أبو بكر الجزائري رحمه الل عن معاينته للآثار السيئة لإيذاء الجن للإنس المتمثل في صرع أخته الأكبر منه التي تدعى سعدية والتي عانت عشر سنوات من الصرع وكان ينطق الجني على لسانها وهدد بقتلها وفعلا قتلها رحمها الله .
ثم عقب الجزائري رحمه الله بقوله : هذه الحادثة عشتها ، وبعيني رأيتها ، وما راء كمن سمع . ( عقيدة المؤمن 185 ، 186 ).
وبعد ما تقدم من الأدلة الشرعية والوقع الثابت في الحياة العملية لا يحق لإنسان أن ينكر دخول الجن في جسد الإنسان خاصة وأنه ليس هناك نص يمنع حدوث ذلك ووقوعه وإنما وردت نصوص تدل على وقوعه وجوازه والله تعالى أعلى وأعلم .