والحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة والنسائي والبيهقي وغيرهم من عدة طرق عن عدد من أصحاب النبي r وهذا لفظ حديث عائشة في صحيح البخاري في كتاب الطب قالت :
سحر رسول الله رجل من بني زُريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله يخيلُ إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله (1) حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: ((يا عائشة أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟)).
قلت وما ذاك يا رسول الله ؟ فقال: ((أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجعُ الرجل ، فقال مطبوب (أي مسحور) قال ومن طَّبه ؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي قال في أي شيء ؟ قال : في مُشط ومُشاطَة)) والمشاطة أي الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند ترجيلهماً (( وجُفَّ طلعة ذكر )) ( أي على الغشاء الذي يكون على الطلع ) قال أين هو ؟
قال في بئر ذي أروان ومن الرواة من قال في بئر ذروان ، قال : وذروان : بئر في بني زريق – فذهب النبي r في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها ، وعليها نخل .
قال: ثم رجع إلى عائشة، فقال: (( والله لكأن ماءها نُقاعةُ الجفَّاء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين ، قلت : يا رسول الله أفأخرجته ؟
قال: ((لا ، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني ، وخشيت أن أثُوَر على الناس منه شراً وأُمر بها فدفنت))(1)
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : سحر النبي r رجلٌ من اليهود ، فاشتكى لذلك أياماً فأتاه جبريل فقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، عقد لك عُقداً في بئر كذا وكذا ، فأرسل رسول الله r فاستخرجها فَحلَّها ، فقام رسول اله r كأنما أُنْشِطَ من عِقَلٍ ، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط ))(2) .
وقد ردّ كثير ممن ينسبون إلى العلم هذا الحديث الصحيح وتبعهم في ذبك من يقدمون العقل على النقل ويردون النصوص التي لا تقبلها عقولهم .
ويرون عقولهم ميزاناً يعرفون به صحيح الحديث من سقيمه معرضين عن منهج المحدثين من سلف الأمة الذين أرسوا قواعد علم الحديث ومصطلحة .
ولو كانت العقول وحدها ميزاناً لمعرفة الصحيح المنقول من سقيمه لكان خبر دائراً بين القبول والرد .
نعم فهؤلاء يرونه موافقاً لعقولهم فيقبلونه وآخرون يرونه مخالفاً لعقولهم فيردونه .
ورضي الله عن عَليَّ إذ يقول : لو أخذ الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح أعلاه !!
فالعقل له دوره وله وظيفته وله أيضاً حدوده ونور الوحي لا يطمسُ نور العقل أبداً بل يباركه ويقويه ويزكيه .
وليس ابداعُ العقل في الجانب المادي والعلمي دليلاً على صوابه ودقته في الجانب الديني الذي لابد من التقيد بنور الوحي .
نعم .. فهذا هو العقل الروسي الجبار يدافع عن الكفر والإلحاد وشعاره أنه يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة ، يؤمن بماركس ولينين وستالين ، ويكفر بالله وبالدين وبالملكية الخاصة !!
وهذا هو العقل الأمريكي الجبار يدافع عن الشذوذ الجنسي وعن زواج الرجل للرجل وعن العنصرية اللونية البغيضة وما أحداث لوس أنجلوس عنا ببعيد !!!
وهذا هو العقل اليوناني يدافع عن الدعارة !!!
وهذا هو العقل الروماني يدافع عن مصارعة الثيران !!!
وهذا هو العقل الهندي يدافع عن عبادة البقر !!!
وهذا هو العقل العربي في جاهليته الأولى يدافع عن وأد البنات وهن أحياء !!
وهذا هو العقل العربي يدافع عن الكفر والإلحاد باسم البعثية والقومية فيقول قائلهم :
أمنت بالبعث رباً لا شريك له ..... وبالعروبة ديناً ماله ثان !!!
ويقول آخر :
هبوني عيداً يجعل العرب أمة
سلام على كفر يوحد بيننا
وسيروا بجثماني على دين برهم
وأهلا وسهلا بعدها بجهنم
هذا هو العقل البشري الذي فَجَّر الذَّرة في الجانب المادي يفجر الكفر والإلحاد والزندقة في الجانب الديني !!!
هذا هو العقل البشري الذي غاص في أعماق البحار يغوص في أعماق الكفر والشرك والأوحال !!!
فالعقل له حدوده وله دوره ولا ينبغي أن يتعدى هذه الحدود أو يتخطاها وأن يحكم على النصوص الصحيحة الصريحة بعقله القاصر وحكمه الضيق .
فالذين ردّوا حديث سحر النبي r ادَّعوا بأن الحديث باطل ومقدوح في سنده والحديث مخرج في أصح كتابين بعد كتاب الله عز وجل في صحيح البخاري ومسلم .
وإذا مجدت الحديث قد اتفق عليه الشيخان فإنه يكون في ذروة قمم الصحة ، وإذا وجدت الرجل يطعن في حديث رواه الشيخان فاعلم بأن بضاعته في علم الحديث مزجاه .. هذا إن أحْسَنّْا الظن به !!
أما دعواهم بأن الحديث يقدحُ في مقام النبوة ويتنافى مع العصمة التي منحها الله لنبيه في قوله {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]
وأن هذا الحديث يصدق المشركين الذين اتهموا الرسول بأنه مسحور كما قال عز وجل منهم : يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [الإسراء:47]
والجواب على هذا أن الرسول r معصوم باتفاق في جانب التبليغ والتشريع : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} } [النجم:4]
وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية كأنواع المرض والآلام والإصابة في المعارك فهذا لا يقدح في مقام النبوة ولا ينافي العصمة وجميع الأنبياء يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر جميعاً: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ابراهيم:11]
وقال جل وعلا مخاطباً رسول الله r : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [الكهف:110]
والسحر علة من علل الدنيا ومن أمراضها كسائر الأمراض .
وهذه قدَّر الله أن تكون للنبي r كما تكون لغيره .
فقد أثَّرت فيه الحمَّى وأثر فيه السُّم وجرح وجهه في غزوة أحد ، وكٌسرت رُباعيته .
وسبقه من إخوانه من الرسل من قُتل ، ومن عذّب ، وأوذي .
وفي سنن الترمذي وقال حسن صحيح من حديث سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله أي الناس أشد بلاءً ؟ قال : (( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صُلْباً اشتدَّ بلاؤهُ ، وإن كان في دينه رقَّةٌ ابتلاه على حسب دينه ، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ))(1) .
وأما قولهم بأنه موافق لقول المشركين: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الفرقان:8].
فمن المعلوم لكل أحد أن المشركين أرادوا بذلك أن ما يتلوه محمدٌ من قرآن نزل عليه من عند الله إنما هو سحر يفرق بين الإبن وأبيه والأخ وأخيه والزوج وزوجه .
كما حكي منهم ذلك في سورة المدثر حكاية عن الوليد بن المغيرة : {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ{18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ{19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ{20} ثُمَّ نَظَرَ{21} ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ{22} ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ{23} فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ{24} إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ{25} [المدثر : 18-25].