ويقول بهذا الرأي من العلماء (الطبرى والماوردي و البغوي والنسفي و ابن كثير و ابن تيمية وابن القيم وآخرون من السلف والمعاصرين ) وأدلتهم تتمثل فيما يلي :
الدليل الأول :عمدة الأدلة عند أصحاب هذا القول هو قول الله تعالى
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)[البقرة: 275]
واستدل أصحاب هذا القول بهذه الآية الكريمة على أن الجني يستطيع الدخول إلى بدن الممسوس وان المس يعنى دخول الجني بدن الممسوس فيصرعه.
قال الشوكاني في فح القدير ( أي قياما كقيام الذي يتخبطه ، والخبط : الضرب بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع . والمس : الجنون ، والأمس : المجنون ، وهو متعلق بقوله : يقومون أي : لا يقومون من المس الذي بهمأو متعلق ب يقوم( . كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) وقال الشوكاني رحمه الله في الآية دليل على فساد قول من قال : إن الصرع لا يكون من جهة الجن ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وقال : ( إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان ، وليس بصحيح ، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس)
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ، (في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفتاوى ( أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي من الأشاعرة وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك ) (9/19 الفتاوى )
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه زاد الميعاد (الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها)
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة (أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً). (تفسير القرآن العظيم – 1 / 334)
ورد في /مجموع الفتاوى: "قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواما يقولون إن الجني لا يدخل في بدن المصروع، فقال الإمام أحمد: يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسان المصروع (مجموع الفتاوى لابن تيمية ج24 ص277 )و الأقوال كثيرة في هذا المجال للعلماء
الدليل الثاني : لأصحاب هذا القول قوله تعالى
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )( ص - 41)استدلوا بهذه الآية علي جواز إضرار الشيطان بالإنسان بأن يعذبه أو يجعله في نصب أي ضيق أو تعب وإرهاق رغما من أنهم لا يعتقدون بان إبليس قد احتل بدن أيوب عليه السلام لان ذلك ممتنع علية فالشيطان ممتنع عليه الدخول إلى جسد الأنبياء
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق علماء السنة والجماعة"(الفتاوى لابن تيمية ج4 ص276،ص277)
قال الشيخ أبو بكر الجزائري: رحمه الله "أذى الجن للإنسان ثابت لا ينكر حيث ثبت بالدليل النقلي والحسي" ( عقيدة المؤمن/ ص229،ص23
الدليل الثالث : يستدل أصحاب هذا القول بحديث عثمان ابن أبي العاص قال: ( لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيئا في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن العاص قلت نعم يا رسول الله قال ما جاء بك قلت يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي قال ذاك شيطان ادنه فدنوت منه فجلست على صدور قدمي قال فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال اخرج عدو الله ففعل ذلك ثلاث مرات ثم قال الحق بعملك )الألباني -:السلسلة الصحيحة
فيستدلون بهذا الحديث على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم أخرج عدو الله قالها رسول الله صلى الله علية وسلم للخبيث عدو الله الشيطان والخروج عكس الدخول مما يعني سابق دخول الشيطان بدن عثمان لذا اقتضى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم أخرج عدو الله ودل ذلك على أن عثمان كان مصروعا من الشيطان وتفل النبي في فمه ليخرج ببركة النبي صلى الله عليه وسلم من جوفه
يقول الشيخ الألباني – رحمه الله - : ( وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ، ويدخل فيه ، ولو كان مؤمنا صالحا) ( سلسلة الأحاديث الصحيحة – 2918 )
يقولشيخ الإسلام ابن تيمية : ( أن الإنس قد يؤذون الجن بالبول عليهم ، أو بصب ماء حار ، أو بقتلٍ ونحو ذلك ، دون أن يشعروا ، فيجازي الجن حينئذ فاعل ذلك من الإنس بالصرع )
قال ابن حزم رحمه الله وأما الصرع فإن الله عز وجل قال: كالذي يتخبطه الشيطان من المس فذكر عز وجل تأثير الشيطان في المصر وع ، إنما هو بالمماسة.)
الدليل الرابع : يستند أصحاب هذا القول إلى حديث أم المؤمنين صفية رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا ، فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي . فقالا : سبحان الله يا رسول الله ، قال : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا ، أو قال : شيئا ).صحيح البخاري -
واستدلوا بهذا الحديث على إمكانية دخول الجن إلى بدن الإنسان طالما انه يجرى مجرى الدم والدم لا يكون إلا في داخل البدن .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: رحمة الله ( وكذلك دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعه
الدليل الخامس : لأصحاب هذا القول حديث أبى سعيد الخدري قال( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ثم يقول الله أكبر كبيرا ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه )الألباني - المصدر:صحيح الترمذي -
وفى رواية ابن مسعود(عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه و نفثه قال : و همزه المؤتة و نفخه
الكبر و نفثه الشعر)ابن حجر العسقلاني - المصدر:الفتوحات الربانيةحديث حسن
قال ابن الأثير رحمه الله : (قال ابن كثير: "فهمزه الموتة، وهو الخنق الذي هو الصرع
وجاء في لسان العرب: ( والمُوتةُ بالضم جنس من الجُنُونِ والصَّرَع يَعْتَري الإِنسانَ فإِذا أَفاقَ عاد إِليه عَقْلُه كالنائم والسكران و المُوتة الغَشْيُ و المُوتةُ الجُنونُ لأَنه يَحْدُثُ عنه سُكوتٌ كالمَوْتِ وفي الحديث أَن النبي صلى الله عليه وسلم كانَّ يتَعوَّذُ بالله من الشيطان وهَمْزه ونَفْثِه ونَفْخِه فقيل له ما هَمْزُه ؟ قال المُوتةُ قال أَبو عبيد المُوتَةُ الجُنونُ يسمى هَمْزاً لأَنه جَعَله من النَّخْس والغَمْزِ وكلُّ شيءٍ دفَعْتَه فقد هَمَزْتَه وقال ابن شميل المُوتةُ الذي يُصْرَعُ من الجُنونِ أَو غيره ثم يُفِيقُ وقال اللحياني المُوتةُ شِبْهُ الغَشْية وماتَ الرجلُ إِذا خَضَعَ للحَقِّ ) وعلى ذلك يكون استدلالهم بهذا الحديث من وجه أن الجنون من الشيطان والتخبط من الشيطان حال المس ودخوله داخل جسم الإنسانوان قولة صلى الله عليه وسلم والموته من الشيطان يدل على ما ذهبوا الية من الصرع قال ابن الأثير: (والموتة: الجنون، لأن المجنون ينخسه الشيطان)
الدليل السادس: لأصحاب هذا القول حديث أسامة ابن زيد قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي حجها ، فلما هبطنا بطن الروحاء عارضت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة [ معها صبي لها ] فسلمت عليه صلى الله عليه وسلم فوقف لها ، فقالت : يا رسول هذا ابني فلان ، والذي بعثك بالحق مازال في خنق واحد منذ ولدته إلى الساعة – أو كلمة تشبهها فاكتنع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط يده فجعله بينه وبين الرحل ، ثم تفل في فيه ، ثم قال : اخرج عدو الله فإني رسول الله ، ثم ناولها صلى الله عليه وسلم إياه فقال : خذيه فلن ترى معه شيئا يريبك بعد اليوم إن شاء الله تعالى قال أسامة رضي الله عنه : وقضينا حجتنا ثم انصرفنا ، فلما نزلنا بالروحاء فإذا تلك المرأة أم الصبي ، فجاءت ومعها شاة مصلية فقالت : يا رسول الله ، أنا أم الصبي الذي أتيتك به ، قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت منه شيئا يريبني إلى هذه الساعة . )ابن حجر العسقلاني -:المطالب العالية - 4/197 إسناده حسن
استدلوا أيضا بهذا الحديث على جواز دخول الجني جسم الإنسي لقول النبي صل الله علية وسلم في هذا الحديث اخرج عدو الله وقالوا أن الخروج لابد أن يكون مسبوقا بدخول الشيطان داخل جسم الطفل .
قال الشيخ صالح العثيمين – رحمه الله - : ( أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضا ، فإنهم يؤثرون على الإنس ، إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم ، وإما أن يؤثروا عليه بالترويع والإيحاش وما أشبه ذلك) (مجموع الفتاوى – 157
الدليل السابع : لأصحاب هذا القول حديث عطاء ابن أبى رباح قال ( قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله لي ، قال : ( إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) . فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف ، فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها ).صحيح البخاري - الصفحة : 5652
قال ابن حجر: ( وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: إني أخاف الخبيث أن يجردني.)ورواية البزار هذه التي فيها ذكر الخبيث ـ الشيطان ـ من طريق فرقد السبخي وهو ضعيف لأنه لين الحديث كثير الخطأ كما في القريب
وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة أم زفر أنها هي التي كان بها مس من الجن
وقال ابن القيم : "ويجوز أن صرع هذه المرأة السوداء من جهة الأرواح الخبيثة" وخلاصة القول في هذا الدليل أن أصحاب هذا القول يحملون صرع هذه المرأة على دخول الجن بجسدها فتصرع ولا يحملونه على الصرع الطبي المعروف في عالم الطب الآن .
الدليل الثامن : لأصحاب هذا القول سورة الناس قال تعلى
الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ
فقالوا إن في هنا ظرفية تفيد دخول الجني بدن الإنسان ثم يوسوس في صدره وهذا هو ظاهر التعبير بالحرف (في) أي وهو بداخله .
الدليل التاسع : لأصحاب هذا القول قوله تعالى
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا )(الجن – 6
فيقولون دلت هذه الآية على أن الجن يرهقون الإنس لذا فقد حملوا معنى فزادوهم رهقا على انه خفة العقل والمس
وقال ابن منظور: في لسان العرب ( والرَّهَقُ جهل في الإِنسان وخِفَّة في عقله تقول به رَهَق ورجل مُرَهَّقٌ موصوف بذلك ولا فِعل له والرَّهَقُ التُّهمَةُ والمُرَهَّقُ المُتَّهم في دِينه والرَّهَقُ الإِثْمُ والرَّهْقةُ المرأَةُ الفاجرة )
قال الشيباني : ( فيه رَهَق أَي حِدَّة وخِفَّة وإِنه لَرَهِقٌ أَي فيه حدّة وسفَه والرَّهَق السَّفَه ) (لسان العرب ) لذا فقد حملوا معنى فزادوهم رهقا على انه خفة العقل والمس
وقال ابن أبي حاتم: (حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان, حدثنا وهب بن جرير, حدثنا أبي, حدثنا الزبير بن الخريت عن عكرمة قال: كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد, فكان الإنس إذا نزلوا وادياً هرب الجن فيقول سيد القوم نعوذ بسيد أهل هذا الوادي, فقال الجن نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون, فذلك قول الله عز وجل: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً} أي إثماً ) (تفسير ابن كثير – 572 )
(حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله) : (وانه كان رجال يعوزون برجال من الجن ذكر لنا أن هذا الحي من العرب كانوا إذا نزلوا بواد قالوا : نعوذ بأعز أهل هذا المكان) :فزادوهم رهقا أي إثما ، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة .( ( تفسير الطبري- 656)
الدليل العاشر : لأصحاب هذا القول قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون:َ ) ( سورة الأعراف – الآية 201 )
قال ابن كثير : ( إذا مسهم أي أصابهم طيف وقرأ الآخرون طائف وقد جاء فيه حديث وهما قراءتان مشهورتان ، فقيل : بمعنى واحد وقيل : بينهما فرق ومنهم من فسر ذلك بالغضب ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه ) ( تفسير القرآن العظيم – 2 / 267 )
واستدل بعضهم بان مسهم طائف تعني أن الطائف من مس الشيطان والدخول إلى جسده وان معنى المس هو دخول الجني إلى بدن الممسوس لان كلمة طائف جاء في عقبها الشيطان .